الحمد للّه ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين
ولا إِلهَ إلا اللّه إِله الأوّلين والآخرين، وقيُّوم السماواتِ والأرضين، ومالكُ يوم الدين
الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته
ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه
ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإِخلاص له وتوحيد حبِّه
وبعد ؛
نكمل الليلة ما بدأناه امس في موضوع المضاربة الاسلامية
حكمة مشروعية المضاربة:
لقد أباح الإسلام التعامل بالمضاربة لشدة حاجة الناس إليها
ولما يترتب عليها من منافع عديدة، فالإسلام حريص كل الحرص
على استثمار المال وعدم تركه عاطلاً، وحريص أيضًا على قيام الإنسان بالعمل
وابتعاده عن الكسل والتعطل، وليس كل من يملك المال لديه القدرة على العمل فيه واستثماره
ولا كل من يملك القدرة والكفاءة على العمل يتوافر لديه المال، ومن هنا كانت المضاربة الأداة التي
تحقق التعاون المثمر بين المال والعمل لصالح الطرفين والمجتمع في آن واحد.
وتتحقق بمشروعية هذا العقد سد حاجة الطرفين وتوسعة أبواب الرزق
الذي يعود على رب المال والمضارب، بالإضافة لما فيه من نفع للمجتمع وتنمية له.
شروط صحة المضاربة:
يقوم كل عقد من العقود في الشريعة الإسلامية على أركان، ويتحقق وجوده بوجودها وينعدم
بانعدامها، ولكل ركن من هذه الأركان شروط يجب توافرها حتى يكون هذا العقد صحيحًا
ويقسِّم الفقهاء أركان المضاربة إلى خمسة أركان هي:
الصيغة، والعاقدان، ورأس المال والربح، والعمل
ولكل ركن من هذه الأركان مجموعة من الشروط والتي تعرف بشروط المضاربة
ومن المهم التفرقة بين نوعين من هذه الشروط: الشروط العامة
والشروط الخاصة، لصحة المضاربة.
والشروط العامة هي الشروط اللازمة لانعقاد العقد بصفة عامة
وتتساوى فيها المضاربة مع غيرها من العقود، وهي الشروط المتعلقة بالركنين الأول والثاني
الصيغة والعاقدان، أما الشروط الخاصة فهي التي تعرف بشروط صحة المضاربة
وهي التي تخص المضاربة دون غيرها، وهي المتعلقة بالأركان الأخرى:
رأس المال، والربح، والعمل
وفيما يلي استعراض لأهم الشروط الخاصة بصحة المضاربة كما رآها الفقهاء:
أولاً: الشروط الخاصة برأس المال:
اشترط الفقهاء في رأس مال المضاربة أربعة شروط كي يكون العقد صحيحًا، وهي:
1- أن يكون رأس المال نقدًا
2- أن يكون رأس المال معلومًا
3- أن يكون رأس المال عينًا لا دينًا
4- تسليم رأس المال إلى المضارب
ويعني هذا الشرط أن يمكن رب المال المضارب من التصرف في رأس المال المضاربة
بإطلاق يده في التصرف فيه، وليس المراد التسليم الفعلي حال العقد أو في مجلسه فقط
فقد أجمع الفقهاء على وجوب تمكين المضارب من التصرف في مال المضاربة
وأن أي شرط يمنع المضارب من التصرف يفسد المضاربة؛ لأنه ينافي مقتضاها ويجعلها عقدًا صوريًّا.
ثانيًا: الشروط الخاصة بالربح:
وقد اشترط الفقهاء بعض الشروط في الربح حتى يكون عقد المضاربة صحيحًا، ومن هذه الشروط:
1- أن يكون نصيب كل طرف معلومًا عند التعاقد
2- أن يكون الربح مشتركًا بين المتعاقدين بحيث لا يختص به أحدهما دون الآخر
3- أن يكون توزيع الربح حصة شائعة لكل من المضارب ورب المال
وذلك بأن يكون نصيب كل منهما من الربح حصة شائعة منه كنصفه أو ثلثه
أو أي جزء شائع يتفقان عليه، ولا يجوز أن يحدد بمبلغ معين كمائة جنيه مثلاً
لأن العامل هنا يصبح أجيرًا، ولا يجوز أن يشترط لأحدهما مبلغًا معينًا مع حصة شائعة من الربح
أو حصة شائعة ناقصة مبلغًا معينًا، فلا يجوز التحديد على أي صورة من هذه الصور.
4- أما الخسارة فقد اتفق العلماء على أنها تكون على رب المال من رأس ماله
ولا يتحمل فيها العامل شيئًا، طالما أنه لم يقصِّر أو يخالف الشروط
إذ يكتفي بما تحمله العامل من ضياع وقته وجهده دون عائد
ومعنى ذلك أنه في حالة الخسارة يتحمل كل طرف من جنس ما ساهم به في المضاربة
رب المال من رأس ماله والعامل من عمله.
ثالثًا: الشروط الخاصة بالعمل:
يرى الفقهاء أيضًا أن العمل - كركن من أركان المضاربة - يجب أن يتوافر فيه عدد من الشروط
حتى تصبح هذه المضاربة صحيحة، بحيث يترتب على تخلفها انتقال المضاربة
من الصحة إلى الفساد
وهذه الشروط هي:
1- العمل من اختصاص المضارب فقط: اشترط جمهور الفقهاء أن يختص المضارب
بالعمل للمضاربة، فلا يجوز أن يشترط رب المال أن يعمل معه
وذهب الجمهور إلى فساد المضاربة بهذا الشرط.
ورغم أن هذا الاتجاه الغالب يمنع اشتراط عمل رب المال مع المضارب
فإن الحنابلة يجيزون هذا لاشتراط، ويرون أن المضاربة تكون صحيحة معه
ويجوز لرب المال مع هذا الشرط جميع التصرفات التي تجوز للمضارب.
2- عدم تضييق رب المال على العامل
اشترط الفقهاء ألا يضيّق صاحب المال على العامل في عمله
ولو فعل ذلك فإن المضاربة فاسدة؛ وذلك لأن الربح هو الهدف
المقصود من عقد المضاربة، فالتضييق على المضارب بما يمنع الربح
ينافي مقتضى العقد فيفسده .
والله أعلم.
هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستفغرين